الجمعة 19/1/2024
تصضع من جبال الأطلس المتوسط أصوات ونغمات تكسر صمت الصخور، ليتراقص على نغماتها بلوط خنيفرة، وصنوبر أزيلال، وأرز إفران. في عقدها الثالث، يبدو صوت “عيشة” فتيا نقيا، يفرض وجوده وإن لم ترافقه آلات موسيقية أو مؤثرات صوتية
على صخرة شاهقة قرب بيتها الريفي بمنطقة عيون أم الربيع، تصدح الشابة الخنيفرية بشذرات من فن “تماوايت” وهو موال غنائي يميزه طول النفس، ويؤديه رجل أو امرأة بأحاسيس جياشة تنعكس من ثناياها صور صوتية لمناجاة إنسانية يصعب تجاهلها.
أثناء انغماسها في تماوايت بدتع يشة في قمة الانصهار مع اللحن الشجي المنسكب من صوتها البكر، ومع الكلمات المعبرة المنطلقة من لسانها الأمازيغي الفصيح. بعد دقائق قضتها في محراب مناجاتها الغنائية، تبتسم ع يشة وتحكي تصريح صحفي عن تعلقها الشديد بهذا الفن منذ نعومة أظافرها.
بعيون شاخصة، تتأمل الجبال الواقفة أمامها والوديان الممتدة على مرمى بصرها قبل أن تتنهد قائلة: “أحب الغناء وأجد حريتي في تماوايت. تعلمت هذا الفن وأنا طفلة، وتحول مع الوقت إلى جزء لا يتجزأ من طقوسي اليومية.”
على غرار عيشة، يحفل المغرب بمئات المواهب في تماوايت والألوان الغنائية الأمازيغية الأخرى. من بين هؤلاء، هواة تعاطوا لهذا الفن في الظل بغرض المتعة والاستئناس، وآخرون استثمروا مواهبهم الفطرية، فاحترفوا الغناء إبان الاستقلال، وأرسوا أسس الأغنية الأمازيغية الحديثة، وسار على دربهم من بعدهم، تقودهم عجلة التطوير والتجديد، وتحفزهم الحاجة إلى مواكبة العصر.
من تماوايت إلى الغناء المعاصر مرورا بأحيدوس وباقي الأصناف الشعرية المغناة، ظهرت الأغنية الأمازيغية في الأطلس المتوسط قبل قرون خلت، وتأقلمت مع الحقب الزمنية المختلفة، مشكلة عنصر إثراء للثقافة المغربية الضاربة جذورها في التاريخ. في حديث لوكالة المغرب العربي للأنباء، يرى الأستاذ الباحث في الفن والتراث الأمازيغيين عبد المالك حمزاوي أن الموسيقى الأمازيغية ظهرت مع الإنسان الأمازيغي مثلما ظهرت باقي الأنواع الموسيقية الأخرى مع أهلها كل بلسانه وخصوصياته. فـ”الرجل الأمازيغي في الأطلس المتوسط، كان يغني وهو يحتطب أو يحرث أو يحصد، وكذلك كانت المرأة تفعل أثناء انهماكها في النسج أو غزل الصوف أو طحن القمح مثلا”.
وحسب الأستاذ حمزاوي، فإن فن “تماوايت” نتاج لبيئة الإنسان الأمازيغي في الأطلس المتوسط، إذ “كان يستعمل في زمن الحروب لبعث الرسائل المشفرة من جبل الى جبل، وفي زمن السلم للتواصل المرموز بين رجل وامرأة يجمعهما الحب ويؤرقهما الوجد.” ومن مميزات هذا الفن اعتماده على اللحن والرسالة وقوة الصوت. وتعد الراحلة “يامنة نعزيز تفرسيت” المزدادة بإقليم خنيفرة سنة 1930 أول من سجل هذا الفن، ولها في أرشيف الإذاعة الوطنية خمسة تسجيلات خالدة.
وإذا كان فن تماوايت وأحيدوس هما الأبوان الشرعيان للأغنية الأمازيغية في الأطلس المتوسط كما يقول الأستاذ عبد المالك حمزاوي، فإن الراحل حمو اليزيد المزداد سنة 1927 بعين اللوح، هو أول من نظم الأغنية الأمازيغية الأطلسية وأرسى قواعدها، قبل أن يسير على دربه من عاصروه أو جاؤوا بعد رحيله بسنوات. وقد تميز هذا الرجل بتعدد المواهب، فكان مغنيا لامعا، وملحنا بارعا، وكان يجمع كلمات أغانيه بذكاء من الشعراء الذين يلتقيهم في الأسواق بحكم مهنته كإسكافي.
من الأسماء الأخرى التي عاصرت حمو اليزيد وساهمت في وضع الأغنية الأمازيغية في الأطلس المتوسط على سكتها الأولى، نذكر؛ أوسيدي بناصر، وموحى أوعلي أوموزون، وإيشو حسن وغيرهم كثير. وانطلاقا من إرث الرواد، ظهر جيل ثان طور الأغنية بطريقته، ونقلها من مرحلة التأسيس إلى مرحلة إثبات الذات. من هؤلاء فنانون لم يتعاملوا مع الآلات الموسيقية كما وجدت، بل غيروا خصائصها وطوعوها لتتلاءم مع اللحن الأمازيغي والأبيات الشعرية المغناة.